لو كان الرئيس سعد الحريري يعي أنّ “مشاويره” من الأقاصي إلى الأقاصي وكميّات الأرزّ التي ابتلعها قسرًا، و”مليونية السيلفي” التي التقطها مع “القاصي والداني” لن تُترجم كلّها بزخمها الظاهر في صناديق الاقتراع لوفّر على نفسه كلّ هذا العناء وسلّم بسخط الشارع من “مزاجيّته” السياسية، أو لكان ضاعف جهوده بالاتّكال على نفسه لا على قاعدة بيانات فريق عمله “المزغولة".
يخطئ قائلٌ إنّ “التعزيلة الكبرى” في البيت الداخلي استُهلَّت من تاريخ عودة الرئيس الحريري من السعوديّة مستقيلًا. ويخطئ ظانٌّ أنّ “ريمونتادا”* الحريري (عودته وتعافيه) بدأت من تاريخ كسره بعض جوانح الأقربين “المتملّقين” وإقصاء بعض “الصقور” الوهميّين.
واضحٌ أنّ الحريري هفا يومَ صدّق ما تناهى إليه من بعض “المُوَشوشين” من أنّ بيته “تهفهف” وبات خاليًا من “المتطفّلين الوصوليين” السائرين على جرح لم يندمل بعد. طيبٌ سعد الحريري ولو حاول ألا يكون كذلك أو تظاهر بخلافه واعدًا بسعد آخر في العام 2018.
على حاله عاد. كما رحل واستقال عاد. لم يتغيّر سعد الحريري ولم يتغيّر المحيطون “المحيقون” به. صدمته نتائج الانتخابات أكثر مما صدمته السعودية في الرابع من تشرين الثاني المشؤوم. صدمته حدّ أنه قرّر إطلاق “يوم حساب” ليوم الحساب. يقول مقرّبون عارفون: “دنيا هذا الرجل الطيّب لا تخلو من الأوادم ولن تخلو. هناك فعلًا من يحبّه بلا غاياتٍ أو أطماع ولكنّه لا يصغي إليهم".
براغماتي يبدو الحريري في هذه المرحلة، وإن لم يبلغ بعد درجة البراغماتية فهو على بيّنةٍ تامّة من أهمية بلوغها. ما انفكّ الرجل زعيمًا متفرّدًا في الساحة السنيّة بأريحيّة تصويتيّة مبشّرة لكنه لم يتفوّق على نفسه. لم تتمكن جولاته من الحؤول دون الإحجام الصريح في الشارع السنّي. كثيرون من أبناء الطائفة منحوه أصواتهم على مضض، وبعضهم وجد ضالته في غريم طرابلسيّ ليس طارئًا على الساحة السياسيّة (نجيب ميقاتي)، وبعضهم رفض نقل البندقيّة من كتفٍ إلى أخرى فجلس في منزله متفرّجًا متحسّرًا على زعامة آل الحريري.
يعي سعد الحريري أنّ خروجه من العباءة السعوديّة يعني حكمًا “انتحاره” سياسيًا. يستغلّ الرجل عودة العلاقة مع المملكة إلى طبيعتها نسبيًا، ويُثلج قلبه تسليمٌ سعوديّ بوجود الرئيس ميشال عون لا بل ضوء أخضر لم يتبدّل حتى الساعة بتعويمه لزعزعة علاقته مع حزب الله ومحاصرة الأخير. لتلك العودة المحمودة ثمنٌ يبدو أنه دُفِع من جيب ثلاثة من الدائرة الضيّقة وعلى رأسهم نادر الحريري، ابن العمّة البارّ، الذي لازم سعد كساعته ورفض “بيعه” كما فعل كثيرون في أوقات “الشدّة” خلافًا لما يُشاع عن صفقاتٍ تورّط فيها الساعد الأيمن لرئيس الحكومة. وفي هذا السياق، علمت “البلد” من مصادر مقرّبة من نادر أنه “ما زال يضطلع بأعماله بشكل طبيعي ولم يهجر ابنَ خاله نهائيًا ويرفض الحديث إلى أحد حاليًا عن حقيقة ما حصل تاركًا كلّ الكلام للأيام القليلة المقبلة، يومَ ستنجلي كلّ الحقائق، مكتفيًا بالقول لحلقته الضيّقة: “راجع أقوى”. وتهمس المصادر بأنّ “نادر لم يُرد الوقوف في وجه استمرار مسيرة الرئيس سعد لأنه يحبّه ويريد الخير له، وبالتالي أزاح نفسَه كي لا يُحرجه بعدما بلغه الخبر بأن السعوديّة أسقطت ورقته وما عادت تريده كالخيال ملازمًا سعد وعارفًا بكلّ خفاياه وخباياه”. وتغمز المصادر نفسها من قناة “اقتراب موعد سقوط أسماء أخرى من الحلقة الضيقة لكن بطريقة أكثر لطافةً ودبلوماسية بما لا يزيد تصدّع البيت المستقبلي المتصدّع أصلًا".
اختصرها الحريري نفسه في “المحاسبة”. كان الرجل يعرف في قرارة نفسه أنّ النتيجة ستكون مخيّبة لكن ليس إلى هذا الحدّ، ومع ذلك أتته الانتخابات فرصةً لإزاحة أقرب الأقربين أو من ظنّهم يومًا أقربين، واعدًا نفسه بمرحلةٍ جديدة من الزرع مع “الأوادم” وعلى رأسهم رئيس البلاد الذي حارب وقاتل لاستعادته من المملكة رئيسَ حكومة معززًا لا ذليلًا. ربّما هو وقت “ريمونتادا” الحريري المتماهية مع ما يعتبره الرئيس ميشال عون الانطلاقة الفعلية والحقيقيّة لعهده مع حكومة فعليّة وحقيقيّة يفرزها مجلسٌ فعليٌّ وحقيقي.
* "الريمونتادا” مصطلح إسباني (La Remontada) يعني “العودة” وأصبح رائجًا في عالم كرة القدم للإشارة إلى “تعافي” فريق وعودته إلى الانتصار في الإياب بعد كبوة ظرفيّة في الذهاب.